فصل: سئل شيخ الإسلام عن ‏(‏جماعة‏)‏ يجتمعون على قصد الكبائر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل شيخ الإسلام علامة الزمان، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني ـ رضي الله عنه ـ عن ‏[‏جماعة‏]‏ يجتمعون على قصد الكبائر‏:‏ من القتل، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك‏.‏ ثم إن شيخًا من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، وأصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات‏.‏ فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح، مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين‏.‏

أصل جواب هذه المسألة وما أشبهه‏:‏ أن يعلم أن الله بعث محمدًا / صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا‏.‏ وأنه أكمل له ولأمته الدين‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏ ‏.‏ وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه، والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا‏}‏‏[‏النساء‏:‏69‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الجن ‏:‏23‏]‏‏.‏

وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏59‏]‏، وأخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏108‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏‏[‏الشورى‏:‏52، 53‏]‏ ‏.‏

وأخبر أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث ‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏ ‏.‏

وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بكل معروف ونهى عن كل منكر‏.‏ وأحل كل طيب، وحرم كل خبيث‏.‏ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏ما بعث الله نبيا إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم‏)‏، وثبت عن العرباض بن سارية قال‏:‏ وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون‏.‏ قال‏:‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا ‏.‏ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور‏.‏ فإن كل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما تركت من شىء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك‏)‏‏.‏

/وشواهد هذا ‏[‏الأصل العظيم الجامع‏]‏ من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب‏.‏ ‏[‏كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة‏]‏ كما ترجم عليه البخارى والبغوي وغيرهما، فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين‏.‏ وكان السلف ـ كمالك وغيره ـ يقولون‏:‏ السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقال الزهري‏:‏ كان من مضى من علمائنا يقولون‏:‏ الاعتصام بالسنة نجاة‏.‏

إذا عرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصًا، محتاجًا تتمة‏.‏ وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب، والأعمال الفاسدة نهى الله عنها‏.‏

والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإن الشارع حكيم‏.‏ فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه، بل نهى عنه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 216‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏219‏]‏، ولهذا حرمها الله تعالى بعد ذلك‏.‏

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقربًا إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله، فإنه لابد أن يكون ضرره أعظم من نفعه، و إلا فلو كان نفعه أعظم غالبًا على ضرره لم يهمله الشارع، فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين‏.‏

إذا تبين هذا فنقول للسائل‏:‏ إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعون على الكبائر‏.‏ فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية‏.‏

فلا يجوز أن يقال‏:‏ إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ / بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ـ وهم خير أولياء الله المتقين، من هذه الأمة ـ تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية ‏.‏ وأمصار المسلمين وقراهم قديمًا وحديثًا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية‏.‏

فلا يمكن أن يقال‏:‏ إن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال‏:‏ إن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزًا عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية، إما مع حسن القصد، إن كان له دين، وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏34‏]‏، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد‏.‏وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين، والعارفين، والمؤمنين ‏.‏ قال تعالى في النبيين ‏:‏‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏58‏]‏‏.‏

/وقال تعالى في أهل المعرفة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏83‏]‏‏.‏ وقال تعالى في حق أهل العلم‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏ 107‏:‏ 109‏]‏ ‏.‏

وقال في المؤمنين‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2-4‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ‏}‏‏[‏الزمر‏:‏23‏]‏ ‏.‏

وبهذا السماع هدى الله العباد، وأصلح لهم أمر المعاش والمعاد، وبه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبه أمر المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وعليه كان يجتمع السلف، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اجتمعوا أمروا رجلا منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لأبي موسى‏:‏ ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون ‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لقد أوتي هذا مزمارًا / من مزامير آل داود‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك‏)‏، فقال‏:‏لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرًا‏.‏ أي‏:‏ لحسنته لك تحسينًا‏.‏

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود ‏:‏‏(‏اقرأ علي القرآن‏)‏، فقال‏:‏أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني أحب أن أسمعه من غيري‏)‏‏.‏قال‏:‏ فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏41‏]‏، قال لي‏:‏ ‏(‏حسبك‏)‏، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء‏.‏ وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال‏:‏‏(‏خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏

ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا ‏.‏ لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام، ولا بمصر، والعراق، وخراسان، والمغرب‏.‏ وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك، وقد مدح الله أهل هذا السماع، المقبلين عليه، وذم المعرضين عنه، وأخبر أنه سبب الرحمة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏204‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} ‏[‏الفرقان‏:‏73‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏16‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏23‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏49‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏‏[‏الكهف‏:‏57‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى‏}‏‏[‏طه‏:‏123‏:‏ 126‏]‏، ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك‏.‏

وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين في المغرب، والعشاء، والفجر ‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا‏}‏‏[‏الإسراء‏:‏78‏]‏، وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏

وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع‏.‏

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذ استثقلت بالكافرين المضاجع‏.‏

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات إنما قال واقـــع‏.‏

وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله، من وجل القلوب، ودمع العيون، واقشعرار الجلود، وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة، حتى قال‏:‏ الشافعي ـ رحمه الله ـ خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يزعمون أنه يرقق القلوب، يصدون به الناس عن القرآن، وسئل الإمام أحمد عنه فقال‏:‏ محدث، فقيل له‏:‏ أنجلس معهم فيه‏؟‏ فقال‏:‏ لا يجلس معهم‏.‏

والتغبير هو الضرب بالقضيب على جلودهم، من أمثل أنواع السماع‏.‏ وقد كرهه الأئمة فكيف بغيره، والأئمة المشائخ الكبار لم يحضروا هذا السماع المحدث، مثل الفضيل ابن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي ‏[‏هو سريّ بن مغلس السقطي، أبو الحسن، من كبار المتصوفة، بغدادي المولد والوفاة، قال الجنيد‏:‏ ما رأيت أعبد من السري السقطي، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعًا إلا في علة الموت، من كلامه‏:‏ من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز‏.‏توفى سنة867م‏.‏ ‏[‏الوفيات 2/357، والأعلام3/82‏]‏، وأمثالهم‏.‏ ولا أكابر الشيوخ المتأخرين‏:‏ مثل الشيخ عبد القادر، والشيخ عدي، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، والشيخ أبي القاسم الحوفي، والشيخ علي ابن وهب، والشيخ حياة ‏[‏هو حياة بن الوليد اليحصبي، أحد الأشراف الشجعان ‏.‏ كان في أيام استيلاء عبد الرحمن الأموي على الأندلس، وامتنع مع أمير طليطلة، فوجه إليهما عبد الرحمن جيشًا فأسر حياة، وصلب بقرطبة، مات سنة 764م‏.‏‏[‏ الأعلام‏:‏ 2/289‏]‏، وأمثالهم‏.‏ وطائفة من الشيوخ حضروه ثم رجعوا عنه‏.‏ وسئل الجنيد عنه فقال‏:‏ من تكلف السماع فتن به، ومن صادفه السماع استراح به‏.‏ فبين /الجنيد أن قاصد هذا السماع صار مفتوتًا، وأما من سمع ما يناسبه بغير قصد فلا بأس‏.‏

فإن النهي إنما يتوجه إلى الاستماع، دون السماع، ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه، لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابـن عمر بسد أذنيه لما سمع زمــارة الراعـي، لأنه لم يكن مستمعًا بل سامعًا‏.‏

وقول السائل وغيره‏:‏ هل هو حلال ‏؟‏ أو حرام‏؟‏ لفظ مجمل به تلبيس، يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه، وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه هل هو محرم‏؟‏ أو غير محرم‏؟‏ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب كسماع الأعراس، وغيرها‏.‏ مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله ‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب ، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم / وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب، وغير ذلك مما هو من جنس العبادات، والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات‏.‏

فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس، والأفراح، ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السموات، فإن هذا يسأل عنه‏:‏ هل هو قربة وطاعة‏؟‏ وهل هو طريق إلى الله ‏؟‏ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، وتحريك وجدهم لمحبوبهم، وتزكية نفوسهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع ‏؟‏ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة، لا على وجه اللهو واللعب‏.‏

إذا عرف هذا فحقيقة السؤال‏:‏ هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي‏:‏ إما محرمة، أو مكروهة، أو مباحة، قربة وعبادة وطاعة، وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين‏؟‏

ومن المعلوم أن الدين له ‏[‏أصلان‏]‏ فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله‏.‏ والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا مالم يحرمه الله، وشرعوا دينًا لم يأذن به الله‏.‏

/ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين‏:‏ هل يباح له ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فإذا قيل‏:‏ إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة، قال‏:‏ إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا قتل‏.‏

ولو سئل عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء‏:‏ أفتى بأن هذا جائز، فإذا قيل‏:‏ إنه يفعله على وجه الإحرام، كما يحرم الحاج‏.‏ قال‏:‏ إن هذا حرام منكر‏.‏

ولو سئل عمن يقوم في الشمس‏.‏ قال‏:‏ هذا جائز ‏.‏ فإذا قيل‏:‏ إنه يفعله على وجه العبادة‏.‏ قال‏:‏ هذا منكر ‏.‏ كما روى البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائمًا في الشمس‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مروه فليتكلم، وليجلس، وليستظل وليتم صومه‏)‏ فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم ينه عنه، لكن لما فعله على وجه العبادة نهى عنه‏.‏

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة، كما كانوا يفعلون في الجاهلية‏:‏ / كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏189‏]‏، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراما، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصيًا، مذمومًا، مبتدعًا، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب‏.‏

ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه دينًا، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين‏:‏ إن اتخاذ هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى أمر مباح، بل من جعل هذا دينًا وطريقًا إلى الله تعالى فهو ضال، مفتر، مخالف لإجماع المسلمين‏.‏ ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلا متكلمًا في الدين بلا علم‏.‏

فالسؤال عن مثل هذا أن يقال‏:‏هل مايفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا ‏؟‏ وهل يثابون على ذلك أم لا ‏؟‏ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله، ففعلوه على أنه قربة / وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى ‏.‏ هل يحل لهم هذا الاعتقاد ‏؟‏ وهذا العمل على هذا الوجه ‏؟‏

وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ إن هذا من القرب والطاعات، وأنه من أنواع العبادات، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده‏:‏ لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب، وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محمودًا، ولا حسنة، و لا طاعة، ولا عبادة، باتفاق المسلمين‏.‏

فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب‏.‏ لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقًا يقدمونه على سماع القرآن وجدًا وذوقًا‏.‏ وربما قدموه عليه اعتقادًا، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربة‏.‏ وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا ‏[‏المكاء‏]‏ و ‏[‏التصدية‏]‏ أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرؤوا شيئًا من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة، كما لا يسمع الإنسان ما لا حاجة له به، / ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه، وعكفت أرواحهم عليه‏.‏

فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين، فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغض الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله، وجند الشيطان‏.‏

فيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم‏.‏ وفيهم من يحضر طعامًا، وإدامًا، ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك‏.‏ فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين، ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل‏.‏

وقد بسطنا الكلام على ‏[‏مسألة السماع‏]‏ وذكرنا كلام المشائخ فيه في غير هذا الموضع، وبالله التوفيق والله أعلم‏.‏ وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

/قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏

 فصــل

قد كتبت فيما تقدم‏:‏ الكلام في ‏[‏المكاشفات، والمشاهدات‏]‏، وأنها على ‏[‏ثلاثة أقسام‏]‏ في الظاهر، والباطن‏.‏ وكذلك ‏[‏السماع، والمخاطبات، والمحادثات‏]‏ ثلاثة أقسام‏:‏في الباطن والظاهر‏.‏

فإن ‏[‏السامع‏]‏ إما أن يسمع نفس الصوت الذي هو كلام المتكلم الصوتي، أو غير كلامه‏.‏ كما ترى عينه، وإما أن يسمع صدى الصوت ورجعه كما يرى تمثاله في ماء، أو مرآة‏.‏ فهذه رؤية مقيدة، وسماع مقيد، كما يقال‏:‏ رأيته في المرآة ، لكن السمع يجمع بين الصورتين‏.‏

وإما أن يتمثل له‏:‏ يعني كلامه في أصوات مسموعة، كما يتمثل له في صورة فيراها‏.‏ مثل أن ينقر بيده نقرات، أو يضرب بيده أوتارًا، أو يظهر أصواتًا منفصلة عنه، يبين فيها مقصوده‏.‏

/وكذلك في الباطن‏:‏ إما أن يسمع في المنام، أو في اليقظة نفس كلام المتكلم، مثل الملائكة مثلًا، كما يرى بقلبه عين ما يكشف له في المنام، واليقظة‏.‏ وإما أن يسمع مثال كلامه في نفسه، كما يرى مثاله في نفسه بمنزلة الرؤيا التي يكون تعبيرها عين ما رؤى، وإما أن تتمثل له المعاني في صورة كلام مسموع يحتاج إلى تعبير‏.‏ كما تتمثل له الأعيان في صورة أشخاص مرئية تحتاج إلى تعبير‏.‏ وهذا غالب ما يرى، ويسمع في المنام، فإنه يحتاج إلى تأويل، وهو بمنزلة الاستعارة، والأمثال المضروبة، فهذا هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏

 فصــل

في الكون يقظة ومنامًا‏:‏ لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ رؤية العين الشيء بلا واسطة، وهي الرؤية المطلقة‏.‏ مثل رؤية الشمس، والقمر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر‏)‏، وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين، أو لانعكاس شعاع البصر، أو لا لواحد منهما‏.‏ على أقوال معروفة‏.‏

/ والثاني‏:‏ رؤية المثال‏:‏ وهي الرؤية في ماء، ومرآة، ونحوهما‏.‏ وهي رؤية مقيدة، ولهذا قال الفقهاء لو حلف‏:‏ لا رأيت زيدًا، فرأى صورته في ماء، أو مرآة، لم يحنث، لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية، وهذا في الرؤية‏.‏ كسماع الصدى في السمع، فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه، فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه، فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة، وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق ‏.‏كما تمثل جبريل في صورة البشر، وهكذا القلب من شأنه أن يبصر، فإن بصره هو البصر، وعماه هو العمى‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏46‏]‏‏.‏

فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه، وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته، والقلب هو الرائى أيضًا، وهذا يكون يقظة، ويكون منامًا، كالرجل يرى الشيء في المنام، ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير‏.‏

وللقلب ‏[‏حال ثالثة‏]‏ كما للعين نظر في المنام‏:‏ وهي التي تقع لغالب الخلق‏.‏ أن يرى الرؤيا مثلا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه‏.‏ ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، و‏[‏عبارة الرؤيا‏]‏ هو العبور من الشىء إلى مثاله، ونظيره‏.‏ وهو /حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشىء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شىء على البديهة من غير مثال معروف‏.‏

ثم المرئي في هذا الوجه، في هذه الحال، وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه، وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها‏.‏

والمرئي في الوجه الأول‏:‏ هو عين الموجود في الخارج لا مرئى في القلب، ومن العامة المتفلسفة من يزعم‏:‏ أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام، ويرونه من الملائكة، إنما وجوده في قلوبهم، وذلك مبلغ هؤلاء من العلم؛ لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم، فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية‏.‏

وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان، بل جميعه من الخارج، وكلاهما خطأ، بل منه ما يكون في نفس الإنسان‏:‏ مثل ما يراه ويسمعه في المنام، إما مثالًا لا تعبير له، أو له تعبير‏.‏

ومنه ما يكون في الخارج‏:‏ مثل رؤية مريم للرسول، إذ تمثل لها / بشرًا سويًا، ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي‏.‏

فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب، كل منهما ‏[‏ثلاثة أقسام‏]‏ إدراك الموجود في الخارج بعينه، وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة، وإدراكه متمثلًا في غير صورته، إما باطنًا في القلب، وإما ظاهرًا في العين‏.‏ والله سبحانه أعلم‏.‏

فالقياس في الحسيات، كالقياس في العقليات، وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجىء مثله في المخاطبات، فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه‏.‏

/ سئل شيخ الإسلام عمن يقول‏:‏ إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب، وينشق السقف والحيطان، وتنزل الملائكة ترقص معهم، أو عليهم ‏.‏ وفيهم من يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر معهم‏.‏ فماذا يجب على من يعتقد هذا الاعتقاد‏؟‏ وما هي صفة رجال الغيب‏؟‏ وهل يكون للتتار خفراء ولهم حال كحال خفراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما من زعم‏:‏ أن الملائكة أو الأنبياء تحضر ‏[‏سماع المكاء والتصدية‏]‏ محبة ورغبة فيه فهوكاذب مفتر، بل إنما تحضره الشياطين، وهي التي تنزل عليهم، وتنفخ فيهم‏.‏ كما روي الطبراني وغيره عن ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏أن الشيطان قال‏:‏ يا رب اجعل لي بيتًا‏.‏ قال‏:‏ بيتك الحمام‏.‏ قال‏:‏ اجعل لي قرآنًا‏.‏ قال‏:‏ قرآنك الشعر‏.‏ قال‏:‏ يا رب اجعل لي مؤذنًا ‏.‏ قال‏:‏ مؤذنك المزمار‏)‏، وقد قال الله تعالى في كتابه مخاطبًا للشيطان‏:‏ ‏{‏وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏64‏]‏، وقد فسر ذلك طائفة من / السلف بصوت الغناء‏.‏ وهو شامل له ولغيره من الأصوات المستفزة لأصحابها عن سبيل الله‏.‏ وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين‏:‏ صوت لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت لطم خدود، أو شق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية‏)‏ كقولهم‏:‏ وا لهفاه‏!‏ وا كبداه‏!‏ وا نصيراه‏!‏‏.‏

وقد كوشف جماعات من أهل المكاشفات بحضور الشياطين في مجامع السماعات الجاهلية‏:‏ ذات المكاء، والتصدية، وكيف يكر الشيطان عليهم حتى يتواجدوا الوجد الشيطاني، حتى إن بعضهم صار يرقص فوق رؤوس الحاضرين، ورأى بعض المشائخ المكاشفين أن شيطانه قد احتمله حتى رقص به ‏.‏ فلما صرخ بشيطانه هرب، وسقط ذلك الرجل ‏.‏

وهذه الأمور لها أسرار، وحقائق لا يشهدها إلا أهل البصائر الإيمانية، والمشاهد الإيقانية، ولكن من اتبع ما جاءت به الشريعة، وأعرض عن سبيل المبتدعة، فقد حصل له الهدى، وخير الدنيا والآخرة، وإن لم يعرف حقائق الأمور بمنزلة من سلك السبيل إلى مكة خلف الدليل الهادي، فإنه يصل إلى مقصوده، ويجد الزاد والماء في مواطنه، وإن لم يعرف كيف يحصل ذلك وسببه ‏.‏ ومن سلك خلف غير الدليل / الهادي، كان ضالا عن الطريق ‏.‏ فإما أن يهلك، وإما أن يشقى مدة ثم يعود إلى الطريق‏.‏

و‏[‏الدليل الهادي‏]‏ هو الرسول الذي بعثه الله إلى الناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وهاديًا إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض‏.‏

وآثار الشيطان تظهر في أهل السماع الجاهلي‏:‏مثل الإزباد، والإرغاء، والصراخات المنكرة، ونحو ذلك مما يضارع أهل الصرع الذين يصرعهم الشيطان، ولذلك يجدون في نفوسهم من ثوران مراد الشيطان بحسب الصوت‏:‏ إما وجد في الهوى المذموم، وإما غضب وعدوان على من هو مظلوم، وإما لطم وشق ثياب وصياح كصياح المحزون المحروم، إلى غير ذلك من الآثار الشيطانية، التي تعترى أهل الاجتماع، على شرب الخمر إذا سكروا بها، فإن السكر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السكر بالأشربة المطربة؛ فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه، واتباعه، فيصيرون مضارعين للذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله‏.‏ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، حتى يقتل بعضهم بعضًا بأحواله الفاسدة الشيطانية‏.‏كما يقتل العائن من أصابه بعينه‏.‏

ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏إن هؤلاء يجب عليهم القود والدية / والقصاص، إذا عرف أنهم قتلوا بالأحوال الشيطانية الفاسدة، لأنهم ظالمون، وهم إنما يغتبطون بما ينفذونه من مراداتهم المحرمة، كما يغتبط الظلمة المسلطون‏.‏

ومن هذا الجنس حال خفراء الكافرين، والمبتدعين والظالمين، فإنهم قد يكون لهم زهد وعبادة وهمة، كما يكون للمشركين، وأهل الكتاب، وكما كان للخوارج المارقين الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية‏.‏ أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏‏.‏

وقد يكون لهم مع ذلك أحوال باطنة، كما يكون لهم ملكة ظاهرة، فإن سلطان الباطن معناه السلطان الظاهر، ولا يكون من أولياء الله إلامن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون‏.‏ وما فعلوه من الإعانة على الظلم فهم يستحقون العقاب عليه بقدر الذنب‏.‏ وباب القدرة، والتمكن باطنًا وظاهرًا ليس مستلزمًا لولاية الله تعالى، بل قد يكون ولي الله متمكنًا ذا سلطان، وقد يكون مستضعفًا إلى أن ينصره الله، وقد يكون مسلطًا إلى أن ينتقم الله منه، فخفراء التتار في الباطن من جنس التتار في الظاهر، هؤلاء في العباد بمنزلة هؤلاء في الأجناد‏.‏

/وأما الغلبة فإن الله تعالى قد يديل الكافرين على المؤمنين تارة، كما يديل المؤمنين على الكافرين‏.‏كما كان يكون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع عدوهم، لكن العاقبة للمتقين، فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏51‏]‏‏.‏

وإذا كان في المسلمين ضَعْفٌ، وكان عدوهم مستظهرًا عليهم كان ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم، إما لتفريطهم في أداء الواجبات باطنًا وظاهرًا، وإما لعدوانهم بتعدي الحدود باطنًا وظاهرًا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا‏}

‏[‏آل عمران‏:‏155‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ‏}‏‏[‏الحج‏:‏40، 41‏]‏‏.‏

/ وسئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار، لا يرين الجنة، ولا يشممن رائحتها‏.‏ وقد روى في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لاإله إلا الله دخل الجنة‏)‏‏.‏

فأجاب‏:‏

قد ثبت في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد‏:‏ نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد الله‏)‏، ومن زعم أن هذا الحديث ليس بصحيح بما فيه من الوعيد الشدي، فإنه جاهل ضال عن الشرع يستحق العقوبة التي تردعه، وأمثاله من الجهال الذين يعترضون على الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ والأحاديث الصحيحة في ‏[‏الوعيد‏]‏ كثيرة، مثل قوله‏:‏ ‏(‏من قتل / نفسًا معاهدة بغير حقها لم يجد رائحة الجنة، وريحها يوجد من مسيرة أربعين خريفًا‏)‏، ومثل قوله الذي في الصحيح‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر‏)‏، قيل‏:‏ يارسول الله، الرجل يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكبر ذاك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، الكبر بطر الحق، وغمط الناس‏)‏، و‏(‏بطر الحق‏)‏ جحده، و ‏(‏غمط الناس‏)‏ احتقارهم، وازدراؤهم‏.‏ ومثل قوله في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم‏:‏ شيخ زان، وملك كذاب، وفقير مختال‏)‏‏.‏

وفي القرآن من آيات الوعيد ما شاء الله، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وكما في قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏29، 30‏]‏، وقوله في الفرائض ‏:‏‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏13، 14‏]‏‏.‏

/وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين، أن ‏[‏الوعيد‏]‏ في الكتاب والسنة لأهل الكبائر موجود‏.‏ ولكن الوعيد الموجود في الكتاب والسنة، قد بين الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يلحق التائب بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏ أي لمن تاب‏.‏وقال في الآية الأخرى‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏116‏]‏ فهذا في حق من لم يتب، فالشرك لا يغفر، وما دون الشرك إن شاء الله غفره‏.‏ وإن شاء عاقب عليه‏.‏

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما يصيب المؤمن من نَصَب ولا وَصَب، ولا هَمّ ولا غمّ، ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه‏)‏ ولهذا لما نزل قوله‏:‏ ‏{‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏123‏]‏ قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا بكر، ألست تنصب‏؟‏ ألست تحزن‏؟‏ ألست تصيبك اللأوى‏؟‏ فذلك مما تجزون به‏)‏ فالمصائب في الدنيا يكفر الله بها من خطايا المؤمن ما به يكفر، وكذلك الحسنات التي يفعلها‏.‏ قال الله تعالى ‏:‏‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏114‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏‏(‏الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر‏)‏، فالله تعالى لا يظلم/عبده شيئًا‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏ ‏.‏

فالوعيد‏:‏ ينتفي عنه‏:‏ إما بتوبة، وإما بحسنات يفعلها تكافئ سيئاته، وإما بمصائب يكفر الله بها خطاياه، وإما بغير ذلك، وكما أن أحاديث الوعيد تُقٍدَّمُ وكذلك أحاديث الوعد‏.‏ فقد يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ ويجحد وجوب الصلاة، والزكاة، فهذا كافر يجب قتله، وقد يكون من أهل الكبائر المستوجبين للنار‏.‏

وهذه ـ مسألة الوعد والوعيد ـ من أكبر مسائل العلم ‏.‏ وقد بسطناها في مواضع، ولكن كتبنا هنا ما تسع الورقة ‏.‏